سورة إبراهيم - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ يِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
{يَتَجَرَّعُهُ} جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالًا منه أو استئنافًا. وجوز أبو حيان كونه حالًا من ضمير {يسقى} [إبراهيم: 16] والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي لا يقارب أن يسيغه فضلًا عن الإساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة؛ فإن السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يفيد نفي ما ذكر جميعًا، وقيل: تفعل مطاوع فعل يقال: جرعه فتجرع وقيل: إنه موافق للمجرد أي جرعه كما تقول عدا الشيء وتعداه، وقيل: الإساغة الإدخال في الجوف، والمعنى لا يقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ما قيل في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي ما قاربوا قبل الذبح، وعبر عن ذلك بالإصاغة لما أنها المعهودة في الأشربة. أخرج أحمد. والترمذي. والنسائي. والحاكم وصححه. وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: «يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] وقال سبحانه: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ اء كالمهل يَشْوِى الوجوه} [الكهف: 29] ويسيغه بضم الياء لأنه يقال: ساغ الشراب وأشاغه غيه وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعديًا أيضًا على ما ذكره أهل اللغة، وجملة {لاَ يَكَادُونَ} إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعًا {وَيَأْتِيهِ الموت} أي أسبابه من الشدائد أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف {مّن كُلّ مَكَانٍ} أي من كل موضع، والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره وروى نحو ذلك عن ميمون بن مهران. ومحمد بن كعب، وإطلاق المكان على الأعضاء مجاز، والظاهر أن هذا الاتيان في الآخرة.
وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتًا لشدتها ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها {وَمَا هُوَ يّتٍ} أي والحال أنه ليس يت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات {وَمِن وَرَائِهِ} أي من بين يدي من حكم عليه بما مر {عَذَابٍ غَلِيظٍ} يستقبل كل وقت عذابًا أسد وأشق مما كان قبله، وقيل: في {وَرَاء} هنا نحو ما قيل فيما تقدم أمامه، وذكر هذه الجملة لدفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا، وقيل: ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار، وروى ذلك عن الكلبي، والمراد بهذا العذاب قيل: الخلود في النار وعليه الطبرسي، وقال الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد هذا، وجوز في الكشاف أن تكون هذه الآية أعني قوله تعالى: {واستفتحوا} [إبراهيم: 15] إلى هنا منقطة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار، والواو على هذا قيل: للاستئناف، وقيل: للعطف إما على قوله تعالى: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2] أو على خبر {أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] لقربه لفظًا ومعنى، والوجه الأول أوجه لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار ولأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولًا أوليًا فإن المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا.


{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}
{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب إليه سيبويه، وقوله سبحانه: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} جملة مستأنفة لبيان مثلهم، ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره، وتعقبه الحوفي بأنه لا يجوز لخلو الجملة عمار يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغني عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة. وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الذين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك: صفة زيد عرضه مصمون وماله مبذول، قيل: ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه عنى الفة، والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال: صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا، وهذا وإن كان مجازًا على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف إليه لأن المضاف ذكر توطئة له فإن ذلك أضعف من بيت العنكبوت كما علمت.
وذهب الكسائي. والفراء إلى أن {مَثَلُ} مقحم وتقدم ما عليه وله، وقال الحوفي: هو مبتدأ و{كَرَمَادٍ} خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتمال كما في قوله:
ما للجمال مشيهًا وئيدا *** أجندلا يحملن أم حديدا
وفيه خفاء، ولعله اعتبر المضاف إليه. وفي الكشاف: جواز كونه بدلًا من {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ} لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذي كفروا مثل أعمالهم كرماد، قال في الكشف: وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات، وفيه تفخيم اه، وقيل: إنه على هذا التقدير أيضًا بدل اشتمال لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل، والمراد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة وشذ جمعه على أفعلاء قالوا أرمداء كذا في البحر وذكر في القاموس أن الإرمداء كالأربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع، والمراد بأعمالهم ما هو من باب المكارم كصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأساري وقرى الأضياف وإغاثة الملهوفين وغير ذلك، وقيل: ما فعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم، وقيل: ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى، وجيء بالجملة على ما اختاره بعضهم جوابًا لما يقال: ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل؟ إذ بين فيها أنها كرماد {اشتدت بِهِ الريح} أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد من شد عنى عدا، والباء للتعدية أو للملابسة، وجوز أن يكون من الشدة عنى القوة أي قويت لابسة حمله {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الإسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة، وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف ***
والتنوين على هذا عوض من المضاف إليه، وضعف هذا القول ظاهر، وقيل: إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار، وفيه أنه لا يصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفًا وتنكيرًا، وقرأ نافع. وأبو جعفر {الرياح} على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية، وقرأ ابن أبي إسحق. وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} على الإضافة، وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف، وقد يقال: إنه من إضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك {لاَّ يَقْدِرُونَ} أي يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من تلك الأعمال {على شَىْء} ما أي لا يرون له أثرًا من ثواب أو تخفيف عذاب.
ويؤيد التعميم ما ورد في الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وقيل: الكلام على حذف مضاف إي لا يقدرون من ثواب ما كسبوا على شيء ما والأول أولى، وقدم المتعلق الأول للا يقدرون على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة، وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثورًا لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والايمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاطف وفرقته، وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه، قيل: والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شعفاء لهم عند الله تعالى، وفيه تهكم بهم {ذلك} أي ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء {هُوَ الضلال البعيد} عن طريق الحق والصواب، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد.


{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}
{أَلَمْ تَرَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته الذين بعث إليهم، وقيل: خطاب لكل واحد من الكفرة لقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} والرؤية رؤية القلب، وقوله تعالى: {أَنَّ الله خَلَقَ السموات والارض} ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما {بالحق} أي ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق أن يخلق عليه. وقرأ السلمي {أَلَمْ تَرَ} بسكون الراء ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، قال أبوحيان: وتوجيه آخر وهو أن {تَرَى} حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القوم ولو تر ما زيد كما حذفت ياء لا أبالي وقالوا لا أبال فلما دخل الجازم تخيل أن الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في لا أبال لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة، والمشهور التوجيه الأول. وقرأ الأخوان {خالق السموات والارض} بصيغة اسم الفاعل والإضافة وجر {الارض}.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يعدمكم أيها الناس كما قاله جماعة أو أيها الكفرة كما روى عن ابن عباس بالمرة {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي يخلق بدلكم خلقًا مستأنفًا لا علاقة بينكم وبينهم، والجمهور على أنه من جنس الآدميين، وذهب آخرون إلى أنه أعم من أن يكون من ذلك الجنس أو من غيره، أورد سبحانه هذه الشرطية بعد أن ذكر خلقه السموات والأرض إرشادًا إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيم كان على إعدام المخاطبين وخلق آخرين بدلهم أقدر ولذلك قال سبحانه:

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9